هل أحب وطني؟ نعم أحبه رغم انتقادي الشديد له في الأونة الأخيرة…كيف ولا أحبه وهو المكان الذي احتضني منذ الصغر وجمعني بأشخاص دافئين كثر. في كل بقعة من أرضك يا بلدي ذكرى جميلة لا تنسى. أكاد أرى الماضي وكأنه كان بالأمس. لا أزال أذكر رحلاتي مع عائلتي وأصدقائي في فصل الربيع وحقول شقائق النعمان التي تملأ المكان. وفصول الشتاء القليلة التي يتخللها الثلج وكوب السحلب وفرقعة الكستناء على صوبة الكاز والتزحلق بصواني الستيل على المنحدرات. شعبه طيب وشهم ويتحلى بكرم الضيافة والنخوة رغم ضيق الحال.
فيه خطوت الخطوة الأول وعلى ربوعه تعلمت القيم والأخلاق والمبادئ حتى كبرت وأصبحت أوعى ويا ليتني يا وطني لم أكبر لأفهم معنى الشر والبلاء والشقاء فيك والجانب السوداوي وراء جمالك الأخاذ. من أين أبدأ في وصفك أيها الوطن.. المعظم تغنى بك في الشعر وفي الأغاني الوطنية وتجلت قيمتك عند كثيرين بوضع الشماغ حول الرقبة. لكن يؤسفني القول أن في بلدي خير قليل وموارد محدودة وأفواه كثيرة.
في بلدي شوارع متصدعة وطرق مليئة بالحفر ومواصلات تكاد تكون معدومة. فيه كل شيء ولكن بنقص. فيه المرافق ولكن تنقصها الصيانة الدورية. فيه المدارس والمستشفيات الكثيرة ولكن تنقصها الجودة والنوعية. لا تحكم القوانين بل تحكم الألقاب والعشائر. يتغنى السادة بمبدأ المساواة أمام القانون وهم الهاربون من وجه العدالة. في بلدي تهان الكرامة إن لم يكن وراءك دعامة.
بلد تفرض فيه الضرائب كل يوم لسد عجز ميزانية لا تنتهي بل تستمر مع تعاقب الحكومات أو على وجه الدقة تعاقب الأوجه. فكل مسؤول يأتي بوعود كاذبة بالتغيير وبنهج تحفظ فيه الحقوق ولكن بلا جدوى. كل يوم تزيد الديون ويزداد العجز وجيبة المواطن دائماً الحل التي تلجأ له الحكومة، إلا أن هذه الجيبة مثقوبة فلا يكاد الراتب يودع في البنك حتى يصرف. بأجور منخفضة وأسعار معيشة مرتفعة يعاني المواطن من أجل الحقوق الأساسية التي لم يعد لديه أمل بأن يراها.
المواطن الأردني تملؤه الهموم منذ الطفولة. فهو في منطقة ملتهبة وموقع صراع في الشرق الأوسط. بمجرد أن يكبر ويفهم، يدرك الشقاء الذي مر فيه أهله من أجل توفير لقمة العيش وتعليم أفضل مع ضغوط تأمين الحاجات الأساسية. يكبر ويدرس باجتهاد حتى يتخرج لينتظر لسنوات من أجل وظيفة قد تأتي وقد لا تأتي في ظل ظروف اقتصادية مزرية وفي ظل بطالة متزايدة. ما أن يجد وظيفة براتب زهيد طبعاً حتى يبدأ مسيرة العمل والدفع. يسعى جاهداً حتى يوفر المال لعله يتزوج قريباً فتأتي أزمة صحية تحرق كل مدخراته في أقل من دقيقة في ظل غياب لتأمين صحي للمعظم. يقف من جديد ويتحسب وإيمانه بالله كبير.
يتزوج ويكون أسرة وتزداد الأفواه التي يجب أن يؤمن هو بدوره لها حياة كريمة. تبدأ المفاجآت بأقساط المدارس ومتطلبات العصر الجديدة التي تثقل كاهله يوماً بعد يوم. في هذه الأثناء يبدأ الإحساس الفعلي بالوالدين. كيف استطاعوا أن يتحملوا كل هذه الأعباء التي لا تنفك عن التزايد يوماً بعد يوم. كيف استطاعوا أن يصبروا ويصمدوا في وجه كل تلك المصاعب بدون كلل أو ملل!
مع تفشي الفساد في الوطن ابتداءاً من الشعب نفسه وصولاً للحكومة وتوسع الفجوة الطبقية والظلم عند العقاب مع غياب واضح في منظومة القانون وقبلها القيم. يكتفي المواطن المسكين ويبدأ بالتفكير جدياً بالهجرة.. أنا لا أريد هذا الوطن.. ولا أريد مستقبلاً مظلم لأولادي. في تنهد عميق ينظر إلى الماّسي في الدول المجاورة التي كانت تدعى بالشقيقة.
أشقائنا في اليمن يعانون المجاعة وأطفال يموتون كل دقيقة على مرأى الجميع وفي صمت مخجل ومؤلم وموجع. في عصرنا هذا كل شيء موثق، سيلعن التاريخ كل من كانت له يد في هذه الجريمة. تبت يد كل من ساهم ولو بطريقة غير مباشرة بقتل الأنفس وإراقة دم الأطفال في كل مكان. وأما عن أشقائنا السوريين والعراقيين، فلقد عشنا معهم ماّسيهم. فيهم أُنزلت كافة أنواع العذاب من فقدان للمسكن، وهروب لا مفر منه من أوطانهم التي امتلأت بالدم والوحشية والظلم، واغتصاب جماعي، ورؤية أعز أقربائهم وأصدقائهم وهم يفارقون الحياة، ونفس كيماوي وأمطار من نار وغيره من الويلات التي لن يستطيع أن يستشعرها إلا من عاشها.
انتهى وقت عقد الآمال عليك يا وطن.. رحمة الله على أوطاننا العربية.. بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان هو الحلم العربي والنشيد الوطني الذي لن ينتهي بوحدة الأمة العربية. أملي فقط برب العباد الذي قال في كتابه الكريم: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” أية 15، سورة الملك. ومعنى هذه الآية أن تسافروا حيث ما شئتم من أرض الله الواسعة واسعوا من أجل رزقكم.
أصبح حلم المواطن العربي الجديد هو الهجرة للبلدان المتقدمة، فلماذا نهاجر؟ الهجرة في حد ذاتها ليست مرغوبه بل دعت إليها الحاجة فهي الحل الوحيد من أجل تحسين ظروف المعيشة والعثور على فرص عمل واستقرار وظيفي. المهاجر لا يبحث عن تجارب جديدة مثيرة ولا يهاجر من أجل أن يتعرف على ثقافات أخرى لا سيما إذا كان الشخص هو أب ومعيل لأسرة. بل من أجل السعي لمستقبل أفضل وكرامة محفوظة وعدالة اجتماعية.
ففي البلدان المتقدمة التعليم مجاني للجميع وبمستويات أكثر تطوراً والتأمين متاح للفقير قبل الغني للعلاج في أفضل المستشفيات وتلقي أحدث العلاجات لشتى الأمراض. بعد مضي عدة أعوام يُمنح هذا الغريب القادم من أقصى الأرض جنسية ذلك الوطن ليعامل مثله مثل المواطن الذي أمضي عمره في البلد. سعياً للمكان الذي يكون فيها معاشي ورزقي وتصان فيه كرامتي.. أنا أهاجر.
بدأت الهجرة منذ ألاف السنوات. حتى قدوتنا محمد عليه الصلاة والسلام هاجر من بلده. فلماذا لا نهاجر نحن؟ أصبح الوطن كالطائرة التي تتضمن ركاب الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال والدرجة السياحية ووجهتها واحدة وهي الهاوية. فهل تنتظر أن تقع مع الجميع وتغمض عينيك أم أنك سوف تختار الترجل من هذه الطائرة؟ في النهاية أترك لكم القرار.. هاجر فلقد طفح الكيل.