من كان يظن أن العبودية حقاً انقرضت وولت منذ ألاف السنين، فهو حتماً لم يدرك المعنى التام لما تشمله الكلمة من معاني. فالعبودية هي عقد تملك لشخص على أخر مقابل مبلغ من المال وسلبه حريته وهو نظام قاسي استمر لفترات طويلة من عمر الإنسانية ويقال أنه انتهى مع تعالي الأصوات المنادية لحقوق الإنسان في أواخر القرن التاسع عشر عن طريق معاهدة رسمية وقعتها الدول عام 1926، حين صدرت عن عصبة الأمم.
لكن هل حقاً انتهى زمن العبودية؟ ما الاختلاف الحقيقي بين العبودية والوظيفة إذن؟ في معظم الحالات وبنسبة تصل إلى 99 بالمئة يكون الاختلاف صفر. حيث أن رب العمل هو المسؤول عن جميع تفاصيل حياتك بما في ذلك الاستراحات التي تأخذها لتذهب إلى الحمام أو لإجراء مكالمة هاتفية أو لتتحدث مع زميل من قسم أخر بحاجة إلى نصيحة منك لوجه الله. عند مرضك وسقمك يكون هو أول من يخطر ببالك قبل التفكير بوضعك الصحي الفعلي.
هو الإنسان الذي تطلب منه الإذن وبيده خلاصك حتى تأخذ إجازة لتذهب إلى مكان تستجم فيه حتى ترتاح من صخب الحياة. هو نفسه الشخص الذي يراسلك خلال فترة إجازتك ليسألك عن أشياء يستطيع أي أحد أن يستلمها عنك. وفوق ذلك، يقوم بإذلالك علناً أمام زملائك أو يقوم بإعطائك العديد من الرسائل المبطنة الخبيثة دون اهتمام بأثرها النفسي الواقع عليك وعلى عائلتك. فهل حقاً العبودية انتهت؟ هل نظام الرق الّإثم ولى زمانه؟
على الأقل في زمن العبودية، كان العبيد يستطيعون دفع مبلغ مقابل حريتهم ولكن في حالة الوظيفة هل يستطيع الموظف في ظل الظروف الاقتصادية الحالية تقديم طلب الاستقالة للحصول على حريته؟ هل يستطيع الموظف الذي رهن عشرين عاماً من عمره لعبودية من نوع أخر تجاه قرض أخذه من البنك بعد طول انتظار، من أجل بيت الأحلام أن يتحرر؟ هل يستطيع الموظف أن يتناسى أقساط تعليم فلذات كبده؟ أو هل يستطيع الحصول على تأمين صحي محترم يؤمن له حسن الخاتمة عند انتكاس صحته دون الوظيفة؟ الجواب طبعاً لا، قد يحتمل الموظف ظروف قاهرة يتخللها كافة أشكال الإهانة وعلى اختلاف الأصعدة من أجل لقمة العيش في ظل غياب للحياة الكريمة. ومن الأمثلة على ذلك، إجبار العمالة على القيام بأشغال شاقة بأجور زهيدة وبظروف عمل قاهرة إلى جانب ما يعانيه هؤلاء من كافة أنواع التعذيب الجسدي واللفظي والجنسي.
عدى عن الوظيفة هناك أشكال كثيرة من العبودية الحديثة التي لا تزال موجودة في زمننا المعاصر، فمن خلال عملي بإحدى المنظمات العالمية المعنية باللاجئين، فقد رأيت كافة أشكال العبودية التي تمارس على البشر من الإتجار بهم، استغلال الأطفال على العمل في مهمات خطيرة تفوق أعمارهم، الاستغلال الجنسي لأهداف ترتبط بالدعارة، واستخدام القوة والخداع للسيطرة على البشر لأغراض استغلالية.
في الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن العبودية تمثل جزء من الماضي الأليم، هناك ملايين من الأشخاص في العالم الحالي يعيشون تحت ظروف تجعل منهم سلع قابلة للاستغلال الشبه مجاني، ليس في بعض الدول بل في معظم دول العالم. وكثير من هذه الدول هي نفسها الدول التي نادت بحريات الإنسان. وغالباً ما يقوم رب العمل، في حالة العبودية الحديثة لللاجئين والمهاجرين، باحتجاز جوازات سفر، ومصادرة هواتفهم النقالة، وإجبارهم على العمل يوميًا حوالي 13 ساعة، ولمدة ستة أيام في الأسبوع، وهو الحال في معظم دول العالم.
وفي نظرة أكثر بعداً، نرى أن العبودية الحديثة ما زالت تشمل العبودية الاجتماعية التي تعطي بعض الأفراد فرصة الهيمنة على أفراد أخرين بناءاً على انتمائهم العرقي أو القبلي أو الطائفي مما قد يفرض عليهم أنماط حياة مخالفة لهويتهم ورغباتهم وتكون حتى أقوى من الذات الإلهية. من الأمثلة على العبودية الاجتماعية فرض انتخاب فرد معين على فرد أخر من نفس القبيلة أو العشيرة دون النظر إلى حقه الانتخابي أو تحت طائلة التهديد، أو فرض الزواج القسري لفرد من أعضاء القبيلة دون موافقة طرف من الزوجين، أو الزواج المبكر إلى جانب العديد من الأمثلة التي نشهدها على أرض الواقع من سلب للحريات استناداً على الحجج الاجتماعية.
ولنفرض جدلاً أن الفرد قام باتخاذ قرار مخالف حر، ضارباً بعرض الحائط محيطه العائلي، فهو بذلك قد يكون قام بحفر قبره الاجتماعي حيث يصبح منبوذ من كافة الدوائر الاجتماعية التي تجعل سبل العيش أصعب إن لم تكن مستحيلة. خصوصاً في مجتمعنا الشرقي مما يجعله مجبراً للهجرة إلى بلد قد يخيل له أن فيها سبل السعادة حتى يكتشف أن المدينة الفاضلة ما هي إلا حلم يقظة في أذهان الشعوب المقموعة الباحثة عن بصيص أمل في ظل التقلبات السياسية والاقتصادية.
لا وجود للمدينة الفاضلة التي ذكرها المنفلوطي حيث سجلت الدول الأوروبية انتهاكات عديدة بسبب كثرة الوظائف الشاقة والإتجار بالبشر وبخاصة رومانيا واليونان وإيطاليا وقبرص وبلغاريا وهي التقاط الرئيسية التي عبر خلالها 100 ألف لاجئ إلى مختلف الدول الأوروبية. أصبحت الهجرة نحو عالم أمثل وهم وأمل في إيجاد حياة كريمة في بلاد أصبحت تفتقر لسبل الحياة الكريمة. وعلاوة عن ذلك، ساهم وجود المهاجرين واللاجئين مع غياب سند لهم في تلك البلدان على زيادة العبودية في مختلف القطاعات خاصة الزراعة والبناء والخدمات. والجدير بالذكر، أن ازياد عدد اللاجئين في تلك البلدان جعل الوقوع في شراك العبودية في ازدياد مستمر.
ويبقى في ذهني سؤال متكرر ألا وهو.. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحراراً! من أعطى البشر حق التملك التام للأفراد مقابل ما يسمى بالراتب.. من أعطى المدير الحق ليستجوب موظفيه ويعرف تفاصيل حياتهم الشخصية؟ من أعطى أي شخص الحق أن يكون الاَمر الناهي فيما يتعلق بأمور لا يعرفها أفراد قرابة من الدرجة الأولى حتى.. أسئلة كثيرة بدون أجوبة وبين مؤيد ومعارض.. يبقى السؤال.. إلى متى هذا النظام وإلى متى الخلاص؟ قد نتخيل أن زمن العبودية انتهى لكن كل المؤشرات تدل على أن أنواع أكثر توحشاً من العبودية أصبحت مقبولة اجتماعياً مما لا يستدعي الدول أن تقوم بالتفكير بإيجاد حل لها من الأساس.