قبل البدء بهذا المقال، أود أن أقوم بتوضيح بسيط ألا وهو أنني أحب عملي ومتفانية إلى أبعد الحدود من أجله. وأنا على إيمان تام بأن الإنسان يجب أن يبذل قصارى جهده لإنجاز عمله على أكمل وجه وبأمانة حتى يكون رزقه حلال ومبارك. إلا أن هذه المقالة ليست عن الأمانة أو النزاهة في العمل ولا عن بذل أفضل ما يمكن لإنجاز العمل، بل عن الأشخاص الذين ينغمسون في العمل، حتى ينصهر في حياتهم الشخصية وتصبح عدد ساعات العمل غير محددة بوقت ما، فحياتهم تمسي عملاً يلحقه عمل.
يتبادر لذهني ذلك الشخص الذي تراه يضحي بوقته مع عائلته من أجل دوام إضافي في أيام العطل، يتخلى عن روابطه الاجتماعية التي تجمعه مع أصدقائه وأحبائه لضيق الوقت، يقوم بتأجيل موعد مع الطبيب لعدم قدرته على أخد إجازة أو مغادرة، لا يقوم بأخذ إجازاته السنوية ليعيد شحن بطاريته، يقوم بتحويل هاتفه الشخصي إلى هاتف عمل يقوم بالرد من خلاله على مكالمات العمل حتى خارج أوقات الدوام، يقوم بأخذ العمل إلى المنزل بحاجة أو بدون حاجة، عقله مشغول بالعمل على مدار الساعة ويفكر دوماً في المنغصات والمواقف التي ضايقته مع زملائه خلال النهار ويقوم بإضجار شريك الحياة بهذه التفاصيل المملة. نعم أنا أتحدث عن الأشخاص الذين يعجزون أن يفصلوا بين عملهم وحياتهم الشخصية.
إن كنت تتصف بالصفات المذكورة مسبقاً، فاعلم أنك ستكون في ورطة حقيقة إن لم تتغير. فهي حقيقة لا جدال فيه.. إن تفانيك المبالغ به في عملك قد يحتاج لجرعة من التخفيف. فعملك لساعات إضافية بعد انتهاء الدوام وتفقدك المستمر لبريدك الإلكتروني في المنزل وأنت مع عائلتك لن ينفعك على المدى البعيد. قال الممثل الصيني “جت لي” شيئاً ألهمني لكتابة هذا المقال. قال: لا تقتل نفسك لعمل تُستبدل فيه في غضون أسبوع إن مت فعلاً واهتم بنفسك.. حتى لو كنت موظف متفاني جداً في عملك وحتى لو كان عملك هو ما تعشق. لا تتخلف عن مواعيد حصصك في النادي الرياضي أو موعد لزيارة الدكتور تقوم بتأجيله دوماً أو حتى الحضور لمسرحية ابنتك أو مباراة ابنك في سبيل العمل.
قانون العمل والعمال لم يمنحك إجازات سنوية ومرضية عبثاً بل لتأخذها فعلاً عند الحاجة ولم يقم بتحديد ساعات العمل دون غاية. لن يعجب بك الجميع إن بقيت لساعات لا داعي لها بالمكتب. فإن دل هذا على شيء، دل على عدم تنسيقك للمهام بفعالية مما أدى إلى تراكمهم، الأمر الذي اضطرك للبقاء لوقت أطول بعد انتهاء وقت الدوام. تستطيع أن تثبت نفسك خلال ساعات العمل وإنجازك الفعلي غير منوط بعدد ساعات معين. أولويات الحياة ليست مربوطة بالأهداف والتقييم المطلوب منك في أخر السنة. الصحة وراحة البال هم أهم من أموال العالم كلها فتعرضك للضغط النفسي من أجل إرضاء مرؤوسيك لن يجعلك أسعد ولن يجعلك أنجح ولن يسهم في ترقيتك إلى مناصب عليا.
إذا نظرت إلى زملاءك من حولك، ستلاحظ أن الأشخاص الذين لديهم معرفة تامة بحقوقهم وواجباتهم هم من يستطيعون المضي في مكان عملهم. هم حددوا أولوياتهم بالشكل الصحيح ورتبوها حسب الأهمية. يستطيعون الموازنة بين عائلتهم وبيتهم ومهامهم الاجتماعية وعملهم. هم من سيحصدون مناصب أعلى ليس لأنهم عملوا بجد أكثر بل لأنهم لم يسكتوا أمام الظلم. لم يقوموا بالتضحية خوفاً من المسؤولين أو بالتنازل عن حقوقهم لإرضائهم. كانت لديهم الثقة الكافية بالنفس للمواجهة بحق ولم يخضعوا تحت ضغط الأكثرية واستطاعوا أن يخلقوا لأنفسهم مكان يليق بهم.
والجدير بالذكر أنه في بعض المهن، عدم القدرة على الفصل بين العمل والحياة الشخصية قد يتسبب بمشاكل نفسية. أثناء عملي في إحدى المنظمات العالمية الإنسانية، التقيت بالعديد من اللاجئين الذين تعرضوا لكافة أشكال التعذيب والعنف الجسدي والاغتصاب وسمعت قصص جمة ورأيت دموع قهر تنهمر أمامي دون أن أستطيع القيام بشيء من شأنه التخفيف عن وقع معاناة أصحاب هذه الدموع. جل ما كنت أفعله هو أن أحبس دموعي وداخلي يغلي من هول ما سمعت. وبعد فترة أصبحت أرى كوابيس بالأشخاص الذين قابلتهم. أصبحت أشعر بالذنب لأنني أستطيع أن أحيى حياة جيدة بينما غيري يعاني لتأمين لقمة العيش. إلى أن أخبرت المسؤول بأنني أتعرض لصدمة نفسية من بعدها قمت بأخذ إجازة وتم تحويلي إلى مرشد اجتماعي وعلم نفس، وذلك حتى يتسنى لي العودة إلى عملي بفكر ونفسية جديدة.
لنتذكر أن العمل عبادة ولكن في نفس الوقت إن لجسدك عليك حقاً، فعلينا جميعاً أن نجد التوازن الذي سوف يحقق لنا السعادة والرضا. لا تندفع في عملك إلى حد يجعلك تغفل عن أولوياتك الأساسية وعن الأمور الجوهرية فعلاً في الحياة. لا تقم بعمل التضحيات فبمقدورك أن تحظى بحياة مهنية ناجحة وحياة شخصية رائعة على حد سواء.