على مدى الأزمنة وتعاقب الحضارات، واستناداً إلى كتب التاريخ التي فاضت بالمحتويات الدموية، لا أعتقد أن هناك زمن نَعم فيه بنو البشر بالهدوء والسلام. ففي اعتقادي السلام هو حالة استقرار وانسجام وأمان يطمح أن يصلها كل الشعوب، لكن في الحقيقة ما هو إلا سراب لا وجود له على أرض الواقع. فالإنسان منذ الخليقة في صراع نفسي دائم بين مكنوناته من الخير والشر، وبين شيطانه وملاكه، وبين فعل الصواب والخطأ.. ليجد نفسه يرتكب حماقات يومية على الصعيد الشخصي والعملي والتي يغلبها طابع الأنانية لتحقيق الذات على حساب الأخرين. الأمر الذي يولد خلل في الأمن والاستقرار الاجتماعي. يتنصر الشيطان في معظم الأوقات ليعم الفساد والشر كوكبنا التعيس الذي انتشر فيه الوباء الأخلاقي وكثرت فيه الحروب ورخص فيه الدم. أفلاطون كان محقاً عندا قال أن “الخير طبع لمن اعتاده، والشر مباح لمن أراده”. فهل إرادة البشر في عالمنا الحالي يغلبها طابع الشر؟
للأسف، العالم البشري أصبح يهوى حكم الغاب ويملؤه الشجع والطمع يوماً بعد يوم ويسيطر عليه حب الأنا… وأصبح يرتكب الجرائم اليومية دون إحساس بالحرج بل أصبح فنان مبدع في خلق الأعذار التي تبرر مواقفه… فالسارق يبرر سرقة الملايين وخصوصاً إذا كانت من فاسد والذي يقوم هو بدوره الأخر على السرقة. والقاتل يبرر سفك الدماء بإسم الدين، بإسم تحقيق العدالة، بإسم الشرف والأسباب لا تنتهي. والمزور يبرر الوسيلة بالغاية السامية التي يسعى لها سواءاً كانت من أجل الارتقاء بالوظيفة أو الحصول على رتبة معينة أو حتى توريط أحد أخر في تهمة حتى يستطيع الخلاص من المعوقات التي تقف في طريقه للنجاح. أصبح النجاح مرتبط بالصراط المعوج والأساليب الملتوية التي يستخدمها الأفراد للوصول. في زمننا هذا نعتذر منك أيها الإمام الشافعي، فمن طلب العلا دفع الرشاوي ومن طلب العلا سرق البلاوي…
وعلى صعيد أخر، يقول دانتي، وهو شاعر ايطالي وكاتب الكوميديا الالهية، أن “النفس ساذجة تجري وراء مصالحها الدنيوية التافهة، لذا من الضروري وجود قانون وحاكم لرعاية البشر”… ففي ظل غياب القانون أو في ظل دول يحكمها القانون أحياناً وتحكمها الأنظمة المستبدة أحياناً أخرى بغية السيطرة والتحكم، أين الملاذ الأمن وأين هو السلام. إن السلام هو كالشبح الضائع ما بين الصراعات الناشئة بين أقطاب العالم، والتعصب الديني والعرقي، وأطماع الدول الكبرى، واختلال النظام الاقتصادي العالمي، وغياب الضمير الإنساني وحب الذات على حساب حياة الأخرين.
في عالمنا معضلة أخلاق وجرائم بالجملة… من أحدث الجرائم التي حدثث في بلدي وجعلتني أصاب بالقشعريرة والصدمة، مقتل طفل يبلغ من العمر 3 سنوات. كانت الجريمة التي ارتكبها والده هي تجاوزه بسيارته موكب عرس لمجموعة من الهمج، الأمر الذي أدى إلى توقفهم، ليجد الأب والأم أنفسهم تحت وابل من الضربات المبرحة، ضربة تلو الأخرى، دون أن تبالي تلك المجموعة بصراخ الطفل الخائف والذي أسكتوه بضربه على رأسه ليقضى عشر أيام بالمستشفى نهايتها كانت إرتقاء روحه الطاهرة البريئة إلى بارئها! بأي حق قتلت هذه النفس ولأي سبب! وما أتفه ذلك السبب المؤدي لوفاته. ماذا كان يدور في ذهن هؤلاء القتلة وأي صراع داخلي كان يدور داخلهم؟ ألهذه الدرجة وصلت همجية بعض الوحوش المتنكرين بجسد إنسان! شخصياً أتجاوز بسيارتي العديد من السيارات لكن من الظاهر أن علي الانتباه من الآن وصاعداً فلعلي أزعج بهذه الحركة أحداً ما لأصبح أنا الضحية القادمة! ضحية للصراع الداخلي لذلك الشخص والذي انتهي بانتصار الشر، والذي سمح له صاحبه بالظهور.
وفي ذهني يبقى سؤال! هل كانت القيم المزروعة في طفولتي عن الصراع الدائم بين الشر والخير كلها قصص خيالية! هل النهاية التي كنت أراها في مسلسلات الكرتون عن انتصار الخير على الشر ليعم السلام على الأرض ضرب من الخيال! وهنا من الجدير بالذكر، منذ الأزل تم تجسيد صراع الخير والشر في القصص الروائية وفي المسلسلات الكرتونيه، فهو يشكل مادة دسمة تحتمل الكثير من المعاني دون أن يجتابها عنصر الملل. فمثلاً في مسلسل السنافر الشهير، يكون الإنسان المُمَثل بشرشبيل هو القوة الشريرة التي تهدف إلى تدمير مخلوقات زرقاء صغيرة تعيش في قرية صغيرة مخفية في الغابة وتسمى السنافر من أجل الحصول على الذهب، ودائماً تبوء محاولاته بالفشل. وفي سلسة الكرتون “ماوكلي”، تم تجسيد الخير بشخصية النمر الأسود باغيرا الذي ينقذ ماوكلي وهو إنسان رضيع ويودعه بين الذئاب لتقوم بتربيته ليصبح واحداً من القطيع، والشر هو النمر شريخان. وتنتهي أحداث المسلسل بمعركة يتنصر فيها ماوكلي على شريخان ويعم الخير الغابة. فهل حقاً يتنصر الخير في الحقيقة؟ غادرت عالم الطفولة الحالمة إلى العالم الواقعي لأكتشف أن صراع الخير والشر هو صراع تتخله عناصر معقدة وأن المعركة قد لا تكون بين طرفين فقط، وأن بداية المعركة تكون داخل الجسد الواحد. وبناءاً على ذلك، نحن بيدنا اختيار معاركنا وبيدنا اختيار الخلاص.
وفي الختام.. حياتنا مبنيه على قرارت ناتجه عن صراعنا اليومي بين الشر والخير، وسلامنا الداخلي لا يمكن أن يُبنى على الشر والأحقاد والضغائن. نعم، نحن لا نملك قوة السيطرة على المتغيرات التي نلمسها في محيطنا أو على قرارات الدول التي في يدها مصيرنا، ولكننا نملك القدرة على التحكم في ذاتنا والإرتقاء بها. نحن نملك القدرة على العطاء المستمر وفي يدنا قمع الشر الموجود داخلنا. مع تفشي الفساد والقتل والجرائم قد نشعر بفقدان الأمل والإحباط. ولكن هناك حقيقة ثابته لم تتغير على مر الزمن، يتواجد الشر والخير في كل ذات بشرية وبيدنا نحن أن نُظهر ونعكس ما نشاء. أقدارنا بين يدي الله ولكن طريقة حياتنا بين يدي أنفسنا. فلنرتقي! وسلام الله على أوطاننا!