نعم هناك لحظات سعيدة وذكريات حميدة تجمعنا بهذه الحياة. إلا أن الظلم المتفشي فيها يفوق الخير والأشياء المشرقة. فرب العباد قال “لقد خلقنا الإنسان في كبد” في سورة البلد، وهو تعبيرٌ دقيق جداً لهذه الحياة الدنيا الدنيئة. التي تستمر برمي المفاجأت دوماً في وجه الإنسان. فالحياة فيها ظلم من المهد حتى اللحد.
الولادة
فمنذ أن يولد الإنسان يتعرض إلى ظلم ومشاكل منها، أن يجد نفسه مرمياً عند حاوية القمامة. لسبب لا يعنيه ولا يضيف أي تبرير لما يعانيه. حتى لو كانت الطريقة التي جاء بها لهذه الدنيا ليست مقبولة اجتماعياً ودينياً علماً بأن الإسلام يُلقي أهمية وقيمة شديدة للاهتمام بالأطفال اليتامى والمتروكين. ليس ذنب رضيع عمره أيام، أن يُرمى على قارعة الطريق. طبعاً مجتمعنا الحميد لا يقبل الخطيئة معرضاً هذا الرضيع إلى المعاناة التي تلاحقه طول عمره. حيث لا يوجد أماكن كافية يستطيع المخطئ أن يلجأ إليها حتى يحافظ على هذا الرضيع دون المساس به وتعريضه إلى القتل في حالات جرائم الشرف مثلاّ أو في حالات المواليد إثر حالات الاغتصاب وغيرها الكثير.
تقدر الأمم المتحدة أن 60 مليون طفل ورضيع قد تخلت عنهم أسرهم ويعيشون بمفردهم أو في ملاجئ أيتام في العالم, في الولايات المتحدة ، يتم التخلي عن أكثر من 7000 طفل كل عام.[2]. |
الأسرة
ماذا عن العنف والإهمال الذي قد يعانيه إذا ولِد في أسرة تنجب الأطفال مثل الأرانب بوضع اقتصادي لا يسمح لوجود طفل واحد حتى. طبعاً يبقى هناك جهلة يتغنون بكثرة الأبناء وأنهم رزق. إلا أن هذا الكلام عار كلياً عن الصحة وفيه ظلم لأنفسهم بداية ومن ثم ذريتهم. التي في معظم الأوقات لا تحظى ببيت سليم أو تعليم جيد أو تربية حسنة وهذا لا يعني أن جميع الأسر الكبيرة الفقيرة تفشل في تربية ذريتها فهناك قصص مشرقة تثبت أن هناك مجال للمعجزات.
يكبر هذا الرضيع ليصبح فرداً ناطق له شخصية واحتياجات قد يتم تلبيتها أو إهمالها تماماً. ووفقاً لحَظِه في هذه الدنيا قد يجد نفسه في عائلة مُحبة وحنونة أو عائلة سيئة لا تستحق شرف الاسم. يَربى في بيئة مضطربة ثم يخرج لمجتمع المدرسة إن لم ينتهي أمرة بترك المدرسة، حتى يبيع أشياء صغيرة على إشارات المرور أو يعمل في بيئة لا تتناسب مع براءة الطفولة التي يمثلها عمره.
المدرسة
في المدرسة، يتعرض إلى ظلم من معلمٍ ثائر غاضب يلقي بمشاكله وهمومهِ على كبش الفداء وهو الطالب. كما يتعرض إلى سلاطة ألسنة المتنمرين وربما قبضات أيديهم. فتساهم المدرسة بزيادة الضغوط عليه، عوضاً عن تأمين بيئة تربوية تعليمية سليمة. فيحظى بتعليم تُنَغصه مواقف يومية وغصةٌ في الحلق لا تنتهي بدمعة تريحها.
العمل
وأخيراً تمر الأيام ويتخرج ليخرج إلى المعركة المنتظرة تتمثل في وظيفة محترمة في مكان مرموق كان يحلم بها. وبراتب مستقل يستطيع بعدها أن يتذوق طعم الحرية وشراء ما يرغب به إلى حد ما. هذا إن كانت لديه استقلالية وتَملُك فعلي لمالهِ دون وجود أفواه كثيرة هو ملزم بإطعامها من أسرته بالطبع.
يتفاجئ هذا الإنسان المسكين ببيئة عمل أقسى من بيئة الأسرة وبيئة المدرسة مجتمعين. ففيها متنمرين بالجملة وظالمين بدون ضمير وشراسة غير معهودة حتى في أكثر الغابات ظلاماً. بعد تحقيق إنجاز ما، يأتي المدير بابتسامته الصفراء محجماً الإنجاز وذلك بعد أن قام بنسبهِ لنفسهِ آخذاً تصفيقاً حاراً من مدرائه…ظلمٌ على ظلم. عدى عن التعليقات الساخرة المغلفة بإطار النُكتة القادمة من المدير خفيف الظل تتبعها ضحكات منمقة لتساير هذا المدير الثقيل بكل المعايير. يوماً بعد يوم تدوي الروح ويهبِطُ الجسد ولكن يقف بصعوبة حفاظاً على استمرار الرزق.
الارتباط والزواج
يقرر هذا الإنسان أن يريح روحه التي أتعبتها مراحل الحياة، فيرتبط أملاً بأن ينال الاستقرار والسعادة. وفي الكثير من الأحيان يكون هذا الزواج مفروض أو بالغصب. ليكتشف عالماً لا منتهي من المنغصات الجديدة والمجاملات الكاذبة. يجب عليه الآن أن يتعلم كيف يُخفي مشاعره حتى يستطيع هذا المركب أن يمشي في رحلة الحياة. حتى لو ظلمه الشريك في مواقف لا تعد ولا تحصى، أو قام بايذائه جسدياً ومعنوياً. تجده يصبِر من أجل الأولاد، من أجل المجتمع، أو لأي أجل كان. ما زال يصبر ويقطف لحظات السعادة في مواسم معدودة، يلحقها قحط مستمر على مدى سنوات. يكتشف الآن أن هنالك عدة جوانب تساهم في تعاسته وزيادة منغصاته.
يُكَون أسرة ويرزقه الله أولاد ليضيف لنفسه أحلى شيء في الحياة ولكن مع ثقل جديد على كاهله. مسؤولية تستمر حتى الممات .تتخللها لحظات سعيدة وأخرى حزينة. وأحكام مسبقة يتلقاها من هنا وهناك، وضغوطات تربوية ومادية ، ونظرات من المجتمع تنتظره ليفشل في مهمة التربية خصوصاً من أصحاب النصائح الذهبية الذين تجدهم معنيون ومهتمون بأولاده أكثر منه نفسه. فهناك مهتمون مارقون هوايتهم التعليق على تصرفات الأولاد متناسين كيف كانوا عندما كان أولادهم صغاراً وجميع التحديات التي مروا بها خلال عملية التربية.
رأي الخبراء
يرى علاء مرسي – مستشار العلاقات الإنسانية والزوجية والمعالج النفسي- أن الإنسان يبحث دائماً عن الحلول الأسهل، لذلك يتزوج الأفراد لكي يسبحوا مع التيار المجتمعي -وليس ضده- ولكن من دون وعي بقيمة الزواج نفسه أو بكيفية إنجاحه. ويفسر مرسي ذلك بقوله: “المجتمع لديه موروث، وهو أنه لا قيمة للرجل إلا إذا تزوج، ولا للمرأة إلا إذا أنجبت، وهكذا بحيث إن مَن لا يقوم بدوره هذا الذي حدده المجتمع يتم وضعه في مرتبة متدنية”. ويضيف: الزواج قيمة روحانية وإنسانية، وهو مصدر للتنوُّر والحكمة والارتقاء والسعادة ، فعلى مَن لا يدرك ذلك أن يظل أعزب حتى يستوعب سمو هذه العلاقة[4]. |
وفي نهاية القول
ينتهي الأمر بهذا الإنسان كهلاً مُحملاً بالأثقال ومنتظراً بأن تحن عليه الدنيا بقليل من الراحة. ظلم من المهد إلى اللحد… هكذا هي الحياة بالنسبة للكثيرين إن لم يكن المعظم. ناهيك عن الحروب واللجوء والأمراض والاختبارات اللانهائية التي نمر بها في الدنيا.
اللهم اجعل حياتنا وإن قَلت فيها اللحظات السعيدة، تقل فيها مواقف الظلم…لأن لا شيء أسوأ من شعور الظلم بغض النظر عن مصدره سواءاً من الأسرة أم البيت أم المدرسة أم العمل أم الشريك… يبقى الظلم من أسوء المشاعر الإنسانية التي قد ينتابها الإنسان ما دام حياً والله المستعان.
المراجع |
1] موقع SOS children’s village https://www.sos-usa.org/our-impact/focus-areas/advocacy-movement-building/childrens-statistics |
2] موقع Encyclopedia.com https://www.encyclopedia.com/social-sciences-and-law/law/law/abandonment |
3] بحث من قبل DDI https://www.prnewswire.com/news-releases/new-ddi-research-57-percent-of-employees-quit-because-of-their-boss-300971506.html |
4] موقع Scientific American https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/news/staying-single-might-make-your-life-happier/ |