في عصرنا الحالي أصبحت الشاشات ترافقنا أينما ولينا وجوهنا. فنراها في التلفاز في بيوتنا وعلى سواعدنا عندما ننظر إلى ساعاتنا، وعلى هواتفنا الذكية النقالة. كما أنها موجودة في الطرقات والشوارع. فأينما ذهبنا نرى شاشات تعكس وجوهنا المنغمسة فيها. وعليه في هذا العصر الرقمي هل حقاً من المنطقي القول بأن أطفالنا قادرين على ترك التلفاز والتابلت والايباد والهواتف الذكية وألعاب الفيديو، بالتأكيد لا يمكن ذلك!
فمنذ ولادة أطفالنا، يتنفسون هواءاً مشبع بإشارات الواي فاي. كما يتم التقاط صور لهم ومشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي وذلك قبل أن يعي هذا الطفل بأنه خرج من بطن أمه. وعندما يبلغ هذا الرضيع أربعة اشهر أو حتى قبل ذلك، عندما يبدأ باستشعار الأشياء المحيطة به وتتسع مدى رؤيته، تلفته الأشعة المنبعثة من الهواتف النقالة. كما يضحك ويبتسم أثناء مكالمة فيديو على الهاتف مع جدته أو خاله المقيم في بلد آخر. ويبدي تجاوب وحماس شديدين عند عرض فيديوهات اليوتيوب الشهيرة مثل كوكوميلون أو بينك فونغ وغيرها الكثير.
أضف إلى ذلك أن العديد من الشاشات تعمل باللمس مما يجعل استخدامها سهل حتى للرضيع. في حين كان متوسط تفاعل الأطفال مع العالم الرقمي هو أربع سنوات في السبعينات[1]. فكيف يمكن لطفلك ترك الشاشة بوجود عنصر جديد أصبح يرافقنا ليل نهار وكيف نتعامل مع هذا الأمر؟
بغياب النصائح من الأجداد أو وفرة الدراسات الحديثة، نجد أنفسنا على محرك البحث الشهير غوغل أملاً في إيجاد الجواب لكل سؤال أو أي عقبة تواجهنا في شتى المجالات، وفي الحقيقة هنالك نوعان من الآباء.
النوع الأول من الآباء في العصر الرقمي
ما زال هناك آباء مثاليين يدعون بأنهم يستطيعون حث أطفالهم على ترك مشاهدة التلفاز أو الايباد أو الهواتف أو الشاشة وقايةً لهم من المخاطر المرافقة لها . فهم يعتبرون الشاشات للأطفال كالكحول: ما قليله مسكر فكثيره حرام. أي أن أي مقدار من التعرض لها مضر. وهؤلاء الآباء يشعرون بالذنب وخصوصاً بوجود توصيات لأطباء تنصح بعدم التعرض للشاشات قبل سن عامان. إلا أن هذا النهج لم يعد مفيداً في هذا العصر.
أوصت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال عام ١٩٩٩ بتجنب مشاهدة التلفزيون تحت سن عامين في عام 2016 ولم يعتمد هذه القاعدة تسعة من كل عشرة آباء[2]. |
النوع الثاني من الآباء في العصر الرقمي
أما النوع الثاني من الآباء يشعرون بأن الشاشات والأجهزة المحمولة أصبحت مثل الطعام والشراب، حاجات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها. فبدلاً من منعها كلياً، علينا أن نعتاد وجودها والتأقلم معها والبحث عن سبل تخفيف مضارها. فهي مثل الطعام لا يضر بشكل عام ولكن كثرته تسبب السمنة ومشاكل أخرى. أصبح وقت الشاشة مثل السكر الجديد. وكما يوجد أطعمة مناسبة وعلاجية ،مفيدة لنا كذلك يوجد أطعمة مسممة أو تسبب التحسس لنا. كذلك هو المحتوى الذي يتم تناقله على هذه الشاشات.
السر هنا يكمن في تقنين وقت الشاشة مع حصد أكبر قدر من المنفعة فبحسب نصيحة الكاتبة آنيا كومينتز المستوحاة من الكاتب مايكل بولان: “استمتع بالشاشات، ولكن ليس بقدر كبير، وفي الأغلب مع الآخرين”[3]. |
لماذا لا يمكن الاستغناء عن الشاشات
لنواجه الأمر كم منا يترك التلفاز مفتوحاً معظم الأوقات حتى دون أن الجلوس أمامه وذلك لأن تلك من أبسط الوسائل التي تبقي الأطفال مشغولين وآمنين جسدياً مع أدنى قدر من التدخل. ويلجأ إلى هذه الطريقة:
- الأفراد الذين لديهم أطفال كثر
- من لا يستطيعون شراء ألعاب كثيرة وإلهاء أطفالهم بأنشطة متعددة
- الأشخاص المنهكون و المشغولون أو الذين يحتاجون إلى إنجاز العديد من المهام المنزلية
- الأفراد غير القادرين على قضاء وقت أكبر مع الأطفال لضيق سعتهم أو وقتهم
- من لا يستطيعون ملأ فراغ أطفالهم بإلحاقهم بأندية صيفية أو شتوية
في دراسة تم إجرائها في عام 2003 ،اثنين من كل ثلاثة أطفال في سن 6 سنوات وتحت تلك السن يعيشون في منازل يترك فيها التلفاز مفتوحاً على الأقل نصف ساعات اليقظة، حتى دون جلوس أحد أمامه للمشاهدة. أي يعيش ثلث الأطفال في منازل يكون التلفاز فيها مفتوحاً معظم الوقت والأطفال الذين ينتمون لتلك الفئة يقرؤون أقل من غيرهم ومستوى تعلمهم للقراءة يكون أبطأ[4]. |
لماذا يقضى أطفالنا وقت كبير على الشاشات
على عكس الكبار، استجابة الأطفال للأمور المثيرة للاهتمام تحدث بشكل لا إرادي، فيسهل جذبهم بسرعة. إلا أن مستوى انتباههم قصير للغاية ولذلك لا يستطيعون مشاهدة نفس الشيء لفترة طويلة. ولهذا، المقاطع السريعة التي تتنقل من لقطة إلى أخرى بسرعة تثير دهشة الطفل وتجعله يبقى محدقاً في الشاشة.
عندما يبلغ الطفل عامان يصبح يشاهد التلفاز كباقي الناس. ومن تجربة شخصية، طفلي يبلغ من العمر عامان ونصف وأصبح لديه عدداً من الأفلام التي يفضلها ولا يمل من مشاهدتها مراراً وتكراراً وكل مرة يشاهدها وكأنها أول مرة. وذلك لأن الأطفال في هذا العمر يتتبعون الشخصيات والقصص والتكرار يستحوذ عليهم لأنهم يميلون للنظام والروتين. وهو أمر جيد لأنه يساهم في بناء كلمات ومرادفات ومفاهيم جديدة.
وفقاً للطبيب النفسي للأطفال برونو بيتيلهيم في عمله عن القصص الخيالية The uses of Enchantment, يصبح الأبطال الخارقون والأميرات والحيوانات المتكلمة موضوع أحلامهم وكوابيسهم على حد سواء. فمن خلال هذه القصص المصورة والأفلام يدخل الأطفال عالم من التخيل وتشكيل الهوية[5].
بالإضافة إلا أن الشاشات في حالة الألعاب والتطبيقات أكثر جاذبية للأطفال حيث أن هناك نتيجة تظهر عندما يقوم الطفل بفعل أمر ما. كل تلك الأجهزة الالكترونية توفر عالماً يتوق الأطفال إلى اكتشافه ومن ناحية أخرى توفر تجربة أكثر فردية من التفاز، فمثلاً على اليويتوب، يختار الأطفال المقاطع التي يريدون مشاهدتها وتخطي الإعلانات وينتقلون إلى مقاطعهم المفضلة دون الحاجة لمشاهدة فيديو كامل.
وفي الختام
نحن لا نستطيع منع أطفالنا من قضاء وقت على الشاشات نهائياً سواءا كانت التلفاز أو الأيباد أو الهاتف الذكي أو الكمبيوتر وغيرها، بغض النظر عن الأضرار المرتبطة بذلك. ولكن ما نستطيع فعله هو الانتباه إلى الوقت الذي يقضيه الأطفال على الشاشة والمحتوى المقدم عبرها.
ومع نقص الأدلة ومحدودية الدراسات في هذا الباع، يظل علينا كآباء أن نبقى على إطلاع على كل جديد وتقضية وقت عائلي مشترك وممتع على الشاشات مع أطفالنا لأن هنالك فوائد إبداعية وإدراكية مرتبطة بذلك، كما يمكن أن يدعم هذا الوقت الروابط الأسرية.
ولنتذكر أننا الآن في عصر رقمي مختلف عن عصر الأجيال التي سبقت وعلينا التأقلم مع متغيراته بدلاً من رفضها تماماً مع إدراك الأضرار والمنافع المترتبة على التقدم التكنولوجي الذي يستمر في إرباك العلماء والخبراء، فما بالكم بنا نحن الآباء.
استمتعوا على الشاشات مع أطفالكم ولكن بقدر. تبقى الوسطية هي أفضل قاعدة في الأمور التي لا تزال غامضة في عصرنا الرقمي.
المراجع |
1] TEDxRainier – Dimitri Christakis – Media and Children, 2011 https://www.youtube.com/watch?v=BoT7qH_uVNo |
2] Pediatrics, Media Use by Children Younger Than 2 Years, 2011 https://doi.org/10.1542/peds.2011-1753 |
3] The Art of Screen Time: How Your Family Can Balance Digital Media and Real Life, Anya Komentez, 2018 https://www.amazon.com/Art-Screen-Time-Balance-Digital/dp/1610396723 |
4] Kaiser Family Foundation KFF, Zero to Six: Electronic Media in the Lives of Infants, Toddlers and Preschoolers – Report, Victoria J. Rideout, M.A., Elizabeth A. Vandewater,Ellen A. Wartella, 2003 https://www.kff.org/other/report/zero-to-six-electronic-media-in-the/ |
5] The uses of Enchantment, Bruno Bettelheim , 1976, pp. 66-70 https://www.nytimes.com/1976/05/23/archives/the-uses-of-enchantment.html |