نعيش في هذه الدنيا ونحن نبحث عن غاية لنا فيها منذ الصغر، غاية دنيوية إلى جانب غايتنا التي خُلقنا من أجلها، تمر الأيام ونجد أنفسنا في عمر الثلاثينيات محاطين بالمسؤوليات وغارقين بنمط حياة يومي والضغوطات تلاحقنا من كل جانب، ونتساءل هل فقدنا ذواتنا في رحلتنا التي أوصلتنا إلى المكان الذي نحن فيه؟
بعد ولادتي لطفلي الثالث بدأت أنظر إلى نفسي وجسدي الذي بت لا أعرفه، جسد أبلته مخاضات متكررة عدا عن مخاض الولادة. لم أعد نفس الشخص الذي كنته قبل سنين مضت. فأنا الآن أم لثلاثة أطفال، طفلة بدأت للتو مشوارها الدراسي في ظل تحديات متغيرة وبحاجة لمتابعة مستمرة لدراستها لاثني عشرة سنة قادمة وأكثر، وطفل بعمر السنتين لم يستغن بعد عن استعمال الفوط وما زال بحاجة إلى أن أكرس له الكثير من الوقت والرعاية، وطفل رضيع حديث الولادة يحتاج إلى عناية متواصلة وسهر ليالٍ طوال.
في بحر هذه الأفكار وأمواجها العارمة، بدأت بالشعور بالفقدان والإحساس بالضياع. لم أكن أعرف سبب ومصدر هذه المشاعر، هل هي من أعراض اكتئاب ما بعد الولادة أم هي حقيقتي الجديدة؟ فكرت بالمستقبل، هل ستكون حياتي مغمورة بالمهام التي لا تنتهي في السنوات القادمة لتسرق مني ذروة شبابي؟ هل انتهى زمن المتعة والسفر والمغامرات المجنونة؟ هل ستكون مغامراتي مقتصرة على مشاهدة مسلسل جديد أو متابعة مغامرات الآخرين؟
في وسط كل تلك الأفكار، شعرت بالفزع الذي استمر ليومين. ولكن بعدها حاولت كالعادة أن أجمع شتات أفكاري وأرى فيها جانباً إيجابياً، وتذكرت الحديث النبوي الذي ثبتني وأعطاني جرعة من التفاؤل، قال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ، عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ”.
شبابي لم ولن يذهب سدىً، ما أمر به هو عبارة عن زيادة في رصيد حسناتي ونعم أحمد الله عليها مع إشراقة كل صباح. ورغم أعبائهم التي لا نهاية لها وهمومهم التي تستمر حتى آخر نفس، أولادي أعطوني جواباً للسؤال الذي سنسأل عنه يوم القيامة، فحياتي لم تكن كلها لهواً في لهو ومرحاً لا ينتهي، وعمري سأقضيه في تربية ذرية صالحة بإذن الله وغرس مكارم الأخلاق والآداب فيهم، سيتخلل تلك المسيرة إخفاقات عديدة لكن في النهاية هذه المحاولات سيكون لها أجرها بمشيئة الله.
جسدي سيبلى في نهاية المطاف، فليكن بلاؤه في غايات مقدسة وأهداف عظيمة. الله فضلني بهذه النعمة التي تستنفذ طاقتي في كل يوم ولكن تعطيني في المقابل أسباباً استيقظ لأجلها كل صباح. هذا لا يعني بالطبع أن حياتي لن يعتريها لحظات من المتعة وأوقات فرح بل على العكس تكون الأوقات السعيدة ذات قيمة أكبر عندما تكون وسط جهد كبير، وكأنها مكافأة تعيد شحن هممنا وتجدد طاقتنا لنعطي أكثر ونبذل جهداً أكبر.
وفي النهاية تحية لكل أم أفنت عمرها من أجل أطفالها وبيتها في الوقت الذي عرفت فيه كيف تستمتع بحياتها أيضاً، لكل أم عاملة تكافح لإيجاد التوازن المفقود بين طموحاتها العملية وحياتها العائلية، وكل أم عرفت قيمة ما تفعله.
لا يغركن ما تشاهدنه على وسائل التواصل الاجتماعي، فليس كله حقيقي وما تملكنه كأمهات هو كنز في الحياتين؛ الدنيا والآخرة، إذا غيرتن الطريقة التي تنظرن بها إلى دوركن في هذه الحياة كأمهات مدهشات.
لن يضيع الله تعبنا وسنكون بإذن الله سعداء بوجود هذه الضغوطات التي تثري مخزون حسناتنا، وتضيف ألواناً بأطياف متنوعة لحياتنا، عسى أن يجعل الله جميع أوقاتنا مليئة بالضحكات البريئة وباللحظات السعيدة.