يستيقظ قبل أذان الفجر دون منبه، يتوضأ ثم يصلي ويتضرع إلى الله أملاً أن يفتح له أبواب الرزق في بلد الغربة بعيداً عن عائلته وأحبائه. مكانه ينتظره، تحت شجرة كبيرة تقيه من الشمس الحارقة طوال اليوم. بسطته تجدها بجانب العديد من الشركات الممتلئة بالموظفين الخاوية بطونهم. يبدأ يومه بنشاط وطاقة ويسعى في الصباح الباكر لتأمين المكونات الضرورية من أجل كعكة شهية. يقوم بشراء البيض ليسلقه وليشويه، يقوم بشراء جبنة المثلثات التي لا نأكلها أو نشتهيها بالعادة إلا من عنده، ويحرص على تأمين زعتر جيد النوعية، يقوم بتقطيع أكبر قدر ممكن من البندورة والجرجير من أجل السلطة، ويحضر شطته الفريدة الممزوجة بعصير الليمون وشرائح الفلفل الأخضر. إنه بائع الكعك الذي أراه يومياً من نافدة مكتبي.
يستقبلك بإبتسامة صباحية مشرقة تكون على الأغلب غائبة في مكان العمل. هذه الإبتسامة كفيلة بأن تعدل مزاجك الصباحي. لا يقوم بسؤالك عن طلبك فهو يعلم عن ظهر غيب ما ترغب. ورغم كثرة الزبائن، يقوم بإشعارك وكأنك أنت فقط زبونه المفضل ويقوم بصنع كعكتك بإتقان ويضع المكونات بوفرة دون إكثرات فعلي أو خوف من نفاذ المكونات فهو جاهز وعلى أتم الإستعداد ويعلم الكميات المطلوبة دون خطأ. يقوم بعمله على أكمل وجه دون كلل أو ملل أو هكذا يبدو. ليقوم بإعطائك أخيراً كعكه مصنوعة بحب وبأمانه تستشعر لذتها في كل لقمة.
لماذا أتغنى ببائع الكعك! ببساطة لأننا نستطيع أن نتعلم الكثير منه. فهو يهمني بأن أحاول أن لا أتململ في حياتي بشكل عام وفي عملي بشكل خاص. بائع الكعك الموجود قرب مكان عملي يتميز عن بقية بائعي الكعك بخلطة الشطة المميزة لديه. هو يتميز بسلطته الغنية بالطماطم وأوراق الجرجير. لديه تنوع كبير مع العلم أن بسطته صغيرة للغاية. ورغم بساطتها إلا أن هذه البسطة لها قوة جاذبه تلهم الجميع ومن الزبائن من يقوم بصنع شطيرته بنفسه. حتى بائع الكعك يستطيع التميز في عمله. فالتميز ليس حصراً بمهن معينة.
في أي عمل هنالك دائماً فرصة من أجل التميز. حتى الأعمال المكتبية التي يغلب عليه طابع الرتابة و الروتين، يكمن التميز فيها بالتنظيم والتصنيف. بطريقة تسهيل آلية العمل لقسمك والأقسام الأخرى. لا يوجد عذر للتهاون، فأنت حتما تستطيع أن تحدث تغيير ولو بشكل بسيط. هناك مبدأ ياباني لإحداث تحسينات مستمرة وصغيرة يدعى بالكايزن. ورغم جهل بائع الكعك لهذه الكلمة إلا أنه يقوم بتطبيقها يومياً في مكان عمله. فلماذا لا نقوم بأخذ العظة والعبره منه! بل على العكس نجد أن الكثيرين من أفراد المجتمع يتطلعون إليه بدونية وكأن ما يقومون به في حياتهم أكثر جدوى وكأن وظيفتهم هي الوحيدة التي بيدها تغيير الكون.
بنسبة بطالة وصلت إلى 19 بالمئة في بلدي، أنا أستغرب استهجان البعض لهذه المهن. فمن الأولى بأن يسعى الانسان لرزقه حتى لو كان عن طريق مهنة لا تتناسب مع مستواه العلمي وحتى لو كانت مهنة لم يحلم بها حتى في أكثر كوابيسه سوءاً. نعم تقوم الحياة بتوجيه العديد من الصفعات لنا. إلا أن هذه الصفعات كفيلة لإعادتنا لرشدنا بأن نسعى فلعل الله يفتح أبواب رزقه التي لا تفنى أمامنا. هنالك العديد من المهن التي تتقنها العمالة الوافدة وذلك ليس لنقص كفاءة الشعب بل بسبب عدم بذلهم الجهد الكافي التي تتطلبه الوظيفة وبسبب الكلل والملل الذي يظهره المواطن ويخفيه العامل الوافد. كل المهن لها أهمية جمى حتى تلك التي قد ينظر إليها الأشخاص على أنها مهن بلا قيمة. ومن هذا المنبر أحيي كل نقطة عرق وكل طبعة شمس صبغت على وجوه المناضلون في هذه الدنيا.
أثناء كتابتي لهذه المقالة وخلال بحثي، فوجئت عند معرفتي بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمحبوب من قبل الكثيرين، كان في طفولته مجرد بائع كعك أو ما يسمى بالسميت في تركيا. كان عليه أن يبذل كل ما بوسعه لمعاونة والده الفقير ولدفع مصاريف تعليمه. ورغم نشأته المتواضعة في تلك الأسرة فقيرة إلا أنه غدى رئيساً لواحدة من أكثر البلدان عراقة وفخامة. وسواءاً كنت من أنصاره أو من معارضيه، فأنت حتما لا تستطيع الانكار بأن أردوغان من الشخصيات السياسية الأبرز في العالم.
خلاصة القول، هناك الملايين في أنحاء المعمورة يتلككون بحجة انعدام الوظيفة وتردي الأوضاع الاقتصادية. فيأتي بائع الكعك ليعطينا أجمل صور على الكفاح من أجل لقمة العيش. يقوم بعمل الشطائر والكعك من أجل المردود المالي بدون خجل، فلما الخجل! إنه لا يطلب من أحد المال راجياً الشفقة والإستعطاف. شمر عن ساعديه وأصبح مدير نفسه واشترى كرامته بعرق جبينه… فتحيه لكل الطموحين وتذكروا أن لكل مجتهد نصيب وإن طال الزمن.