كانت الحياة أيام الزمن الجميل، أيام أبي وأمي وأجدادي أبسط وكانت هنالك بركة ووفرة في كل شيء أو هكذا أذكر. نعم لم تكن الحياة وقتها المدينة الفاضلة وكانت تتخلها مشاعر الحقد والغيرة والمقارنات ولكن لم تكن الفجوة بين طبقات المجتمع بهذا الكبر ولم تكن أهمية التعليم إلا لتنمية الفكر نفسه من أجل تطوير الذات والحصول على الشهادة من أجل فرصة العثور على مهنة محترمة ومرموقة.
ولكن في أيامنا هذه، حين أنصت إلى الأخرين من حولي وطريقة تحدثهم عن تعليم أولادهم، أستشعر بنبرة من التباهي الممزوجة بقليل من الفوقية. وخصوصاً عند ذكرهم للبرنامج الدولي الذي يلتحق به أولادهم أو عن كمية اللغات الذين يتفوهون بها حتى ولو كانت كلمات معدودات من كل لغة. أصبحت المدرسة والتعليم من مظاهر المكانة المجتمعية التي يشتريها الأهل بانتقاء المدارس المعروفة بالرقي وطبعاً بأقساط خيالية. ماذا حل بتهذيب الفكر وتنمية التعليم باستخدام الموارد المحدودة التي تناسب الجميع؟ ماذا حل بأجدادنا الذين كانوا يدرسون على ضوء الشمعة؟
أصبح التعليم تجارة جائرة يتم فيها استنزاف الأهالي وضغطهم إلى دفع مبالغ طائلة من أجل المراحل الأساسية التي أصبحت تفوق في تكلفتها الأقساط الجامعية. يصبح الهم الأساسي لهؤلاء الأهل تعليم أولادهم بمدارس معينة على حساب طموحاتهم وأهدافهم وقدرتهم التوفيرية والشرائية وتلبية احتياجاتهم الأساسية مثل المسكن وغيره. تستنزف الأقساط دخل الأسرة وتجعلهم يفكرون مئة مرة قبل إضافة طفل أخر للمعادلة وذلك لأن هذا الطفل أصبح بنظرهم عبارة عن ثقب أسود للأموال ومسؤولية زائدة عوضاً عن كونه مصدر رزق وبركة ونعمه يتفضل بها رب العباد علينا. كل ذلك مقابل وعود واهية من هذه المدارس بمستقبل زاهر لأولادكم. لكن ما هي الضمانات التي تم الاستناد عليها لإقامة هذه الوعود الكاذبة؟
تبدأ أقساط المدارس الخاصة من 3000 دولار وقد تصل إلى 5600 دولار في السنة الدراسية الواحدة وللصفوف الأساسية. عدى عن مصاريف الرحلات المدرسية والأنشطة خارج المنهاج والزي المدرسي والكتب. تثقل هذه المصاريف كاهل الأهل وتجعلهم في ضغوطات وأعباء مستمرة وفي عجز عن التفكير في أي شيء أخر غير التعليم. والسؤال الأهم “لماذا يتم تعقيد الأمور والنظر بطريقة دونية للعلم المتلقى من مدارس حكومية أو حتى المدارس الخاصة بالنظام العادي؟ لماذا هذه المعاداة لهؤلاء المؤسسات وكأنها مؤسسات تهدف إلى تخريب تربية الطفل لا تهذيبه؟
الجدير بالذكر هنا، أن معظم المدارس الحكومية تفتقر إلى الخدمات الأساسية التي يحتاجها الأهل وأهمها المواصلات. فلا يوجد خدمة لنقل الطلاب ذهاباً وإياباً إلى المدارس، الأمر الذي يدفع العديد من الأهالي وخصوصاً الموظفين منهم إلى اللجوء إلى المدارس الخاصة وذلك لتوفر هذه الخدمة. كما تعاني البنية التحتية للمدارس الحكومية وخصوصاً البعيدة عن العاصمة، حيث نسمع بين الفينة والأخرى عن خبر تعطيل الطلبة في مدرسة ما عدة مرات على مدار السنة لانهيار أجزاء منها أو لوجود صيانات متكررة.
أما عن دورات المياه فمبدأ “النظافة من الإيمان” الذي يُنقش في أذهاننا منذ الصغر لا ينطبق أو بالأحرى غير موجود. فالحمامات مكرهه صحية قد تسبب الأمراض للطلبة كما ويوجد نقص حاد في عمال النظافة الأمر الذي يزيد من الطين بلة. فضلاً عن ذلك، يشعر الطلبة بحرارة الصيف وببرودة الشتاء القارسة وذلك في ظل نقص في التكييف والتدفئة. عدى عن رواتب المعلمين المتدنية التي تثبط معنوياتهم وعزيمتهم وتزرع فيهم شعور اللامبالاة تجاه الطلبة مما يؤثر في العملية التعليمية والتربوية على حد سواء.
ولكن مع كل ذلك، نلاحظ أن المتفوقين في امتحان الثانوية العامة هم من خريجي تلك المدارس مع غياب واضح لطلاب المدارس الخاصة التي تعد بنتائج أعلى وتعليم أفضل. الأمر الذي يدل على أن الإرادة فوق كل شيء. فالأداة مهمه ولكن الحرفية في التعامل معها هي الأساس للإبداع والنجاح. من أراد العلا ومن أراد الوصول فحتماً سيصل مع وجود معوقات لا نهاية لها على الطريق. ليست المدرسة والمنهاج العوامل الوحيدة لوصفة النجاح، فإن دققتم في قصص التاريخ لأدركتم أن معظم العباقرة يولدون من رحم الماسي والمعاناة.
من أجل توفير ما يفترض به أن يكون التعليم الأمثل للأولاد تقوم أسر الطبقة المتوسطة الدخل بالتخلي عن أساسيات الحياة من أجل إلحاق أولادهم في مدارس خارج إطار ميزانيتهم. في الوقت الذي يستطيع هؤلاء وضع أولادهم في مدارس حكومية مناسبة. أصبحت نظرة الأشخاص للمدارس الحكومية على أنها إصلاحيات رديئة لا تنتج طلبة على مستوى عالي من التعليم. أنا لست ضد المدارس الخاصة ولا ضد البرامج الدولية المضاعفة بالسعر ولكن لمن استطاع إليها سبيلاً وبيسر. وأشعر بالدهشة والاستغراب كلما رأيت أشخاص الدخل المحدود وهم يعانون الأمرين من أجل توفير التعليم لأولادهم. فأيها الأهل لا تقوموا بالتخلي عن أحلامكم من أجل أولادكم.. لا تقوموا بالتضحية من أجل وعود كاذبة وتحلوا بالوسطية واتبعوا نمط حياة يتناسب مع ميزانيتكم ودخلكم السنوي.. لا تدعوا خدعة الاستثمار بالتعليم الأمثل تنطلي عليكم ولا تنصتوا لمن حولكم فمنتقديكم لن يقوموا بدفع الأقساط عنكم.