عندما نشاهد برنامج وثائقي لعالم الحيوان ونرى صور أو مقاطع لأسد يفترس حماراً وحشياً لا نستهجن المشهد رغم قبحه، فبالنهاية هذه هي دورة الحياه في عالم الغاب. فالقوي يفترس الضعيف ولا مجال للضعف والتراجع في هكذا عالم. وعندما نكون صغاراً في كنف أمهاتنا نعيش في عالم مثالي ونكون في حماية تامة من المخاطر، لكن سرعان ما ينتهي هذا السكون مع دخولنا للمدارس لنكتشف أن هناك عالم أسود ينتشر فيه الظلم والحقد والحسد ويتلاشى فيه السلام. فلماذا يتنمر أفراد على أخرين؟ ولماذا يلازمنا التنمر من مراحل الطفولة وصولاً إلى مكان العمل؟
التنمر هو شكل من أشكال الأذى الموجه نحو فرد أو حتى مجموعة تكون أضعف جسدياً أو اجتماعياً يقع في شباكها الكثير فيتعرضون للتحرش اللفظي أو الجسدي أو النفسي. هنالك الكثير من الدراسات التي تشير إلى أن سبب التنمر يكمن في نقص تقدير الذات للمتنمر نفسه مما يدفعه لتعويض ذلك النقص من خلال التسلط على الأخرين، إلا أن هذه الدراسات لا تصف المتنمرين بشكل دقيق فالمتنمرين يغلب عليهم أيضاً طابع النرجسية والتكبر وحب الذات المفرط على حد سواء.
تبدأ حلقة التنمر في المدارس ابتداءاً من المعلم نفسه على طلابه، فكثيراً ما نشاهد مقاطع فيديو لمعلمين يقومون بضرب تلاميذهم بعنف مبالغ فيه أو توبيخهم بألفاظ قاسية من أجل زرع مفهوم أو ايصال معلومة معينة أمام جميع الطلبة الشيء الذي من شأنه اهانة الشخص وترك ندبة عار تلازمه طول العمر. فالمعلم هو الأقوى جسدياً واجتماعياً من الطلبة في معظم الأوقات. والجدير بالذكر هنا أن مهنة التعليم تتطلب صبراً وقوة تحمل عالية لا يستطيع أن يشغلها أي شخص اعتماداً على المتطلبات الأكاديمية فقط.
كما ينتشر التنمر بين الطلبة أنفسهم حيث يكون هنالك دائماً مجموعة من الطلبة في الصف يصنفون أنفسهم بأنهم أعلى مرتبة من بقية زملائهم ويصبح الانضمام لهم بمثابة مرتبة شرفية واستحقاق لا يناله أي كان. وتسعى تلك المجموعة لفرض سيطرتها وهيمنتها على البقية من خلال التهديد أو باستخدام القوة أو باطلاق الألقاب على المستضعفين من زملاؤهم. يشعر الضحايا بالخجل ولا يقومون بالتبليغ عن هذا التنمر وذلك لأن هذا الفعل قد يزيد من العنف الملقي عليهم. يصبح الدوام عبأ على ضحايا التنمر وتصبح ثقتهم بأنفسهم أقل مع أنهم قد يكونوا بل وبالغالب هم أفضل من جميع النواحي من المتنمرين. إلا أن الضحايا لا يدركون نقاط القوى لديهم بل على العكس يتعزز لديهم مبدأ أفضلية المتنمرين مع كل لفظ سيء ومع كل همسة ولمزة فيها كلام جارح معادي. يصبح لديهم فقدان للانتماء لأي جهة الأمر الذي يسبب الضياع لهم طوال فترة الدراسة
وخلافاً للتنمر الحاصل في المدارس والذي يكون بشكل أساسي مربوطاً بالايذاء الجسدي، فإن التنمر في مكان العمل يحدث ضمن القواعد والأنظمة الداخلية في العمل ويستهدف روح الموظف ويزهقها يوماً بعد يوم حتى يدخل الموظف في حالة اكتئاب حاد قد يعرضه إلى انهيار عصبي وتدني الثقة بالذات. فهنالك مجموعة أو شللية تقوم بالتسلط على فئة أخرى من الموظفين فتميل هذه الشللية إلى إلقاء جميع أعباء العمل المكلف لها على الفئة الأضعف وتصبح في حالة راحة تامة تمكنها من التفرغ للتسلط على الفئة المنهكة من كثرة العمل.
يصبح عمل متنمري العمل هو الضغط على المستضعفين من خلال إغراقهم بمهام كثيرة بمهل قصيرة لا تتناسب مع كمية العمل الموكل إليهم. فيصبح الموظف المستضعف في حالة من الضغط النفسي والجسدي حتى يستطيع أن يلبي حاجة العمل وحتى يرقى لمستوى العمل المطلوب منه. ويقوم متنمرو العمل باصطياد أخطاء المستضعفين والإشارة إلى تدني مستوى الأداء متناسين الضغط النفسي والجسدي الملقى عليهم. بعد فترة، يبدأ المستضعفين بفقدان ثقتهم بأنفسهم ويشعرون بعدم الأمان وبأنهم على مشارف فقدان وظيفتهم بأي لحظة. مما يزيد من قوة المتنمرين ويؤدي إلى إخلاء مسؤوليتهم من أي خطأ قد يحدث في المهام ويحررهم من المحاسبية المقرونة بتلك الأخطاء. ومن اللافت أن أغلب متنمري العمل هم الأقرب للمرؤوسين والأقوى وشهادتهم دوماً مسموعة سواء بحق أو بباطل. فيجد الموظف المستضعف نفسه في حلقة مفرغة وعاجز عن التنفس أو إيجاد مخرج لحالة التنمر التي تنهكه وتستنزف قواه فيدخل حالة إحباط واكتئاب حاد. فما هو الحل للخروج من هذه الحالة!
الحل يكمن بعدم مطاوعة متنمري العمل حتى لو كان الثمن فقدان الوظيفة وذلك لأن نفسك أولى من الوظيفة نفسها. هي حكمة لا شك فيها، رزقك من الله فدعه له. كلما أمنت بهذه الحقيقة كلما وجدت بالك مرتاحاً وعقلك محرراً. اعتقادك وإيمانك العميق بهذه الحقيقة لا يعني التواكل والكسل واللامبالاة. ولكن ما أعنيه هو أن لا ترخي عنقك خوفاً من مسؤول أو من مدير لأنه ليس هنالك شيء أثمن من الحرية والكرامة. قد تجد نفسك في مواقف كثيرة حين يملي عليك عقلك أن تستكين وتذعن لرغبة القوي ولكن قاوم بشدة هذا الخنوع. لأن الخنوع مع تقدم العمر يصبح عادة لا يمكن التخلص منها أو بالأحرى التحرر منها بسرعة.
لا تقم باستلام مهام أكبر من استطاعتك لإرضاء من هم أعلى مرتبة منك لأن ذلك سيتلفك على المدى الطويل ويكلفك صحتك. وقم بإعطاء مهلة كافية لتسليم المهام حتى لو كان ذلك فيه معارضة للزمن المقترح ممن هم أعلى منك وظيفياً، لأنك أنت وحدك أدرى بقدرتك وعلى علم بالزمن الذي تتطلبه المهنة الموكلة إليك. قم بتذكير نفسك بميزاتك ونقاط قوتك وقم بتقييم نفسك باستمرار حتى تتمكن من تطوير مهاراتك. قيمتك أغلى من أن يخدشها الأخرين فحافظ عليها ولا تسمح للمتنمر بأن يتوغل في ذاتك فهو وباء مجتمعي لا قيمة حقيقة له.