اللحظة المنتظرة لاستقبال روح تشكلت بقدرة الخالق حان أوانها. تبدأ بأوجاع خفيفة تستمر بالتصاعد إلى حد لا يتخيله إلا من جربه، يرتفع الأدرنلين عند الأم وتشعر بأحاسيس ممزوجة بين الحماس لمقابلة جنينها والخوف مما ينتظرها من آلام المخاض والانقباضات التي تُشعرها بأن روحها تنتزع من جسدها في كل إنقباضة. تتلاحق الأحداث وتمر الساعات.. تلحقها صيحة تُطلقها الأم معلنة بها وصول الجنين المنتظر. بعد ظلام استمر لتسعة أشهر، يستقبل هذا الجنين شعاع الضوء ويقبل على هذا العالم الغريب. يبدأ مشواره هو الآخر ببكاء يعلن فيه عن بداية التقاطه لنفسه الأول. سبحان الله على هذه المعجزة التي تتكرر كل يوم بقدرته.
ولكن ولادة الجنين ما هي إلا البداية لحقبة جديدة من التحديات والمغامرات التي قد تكون من أكبر الإنجازات أو من أكبر خيبات الأمل في المستقبل. لاحظت أن العديد من الأزواج المقبلين على استقبال مولود يشعرون بالقلق حيال العبأ المادي الذي يترتب على قدومه بدءاً من احتياجاته الأساسية من الحليب انتهاءاً إلى الأقساط التعليمية التي أصبحت خيالية صعبة الوصول للمعظم. ولا يمكن لوم الأزواج على هذه المشاعر التي تنتابهم فمع قلقلة الوضع الاقتصادي، أنا أتفهم هذه المخاوف التي يشعر بها العديد، إلا أن أكبر هذه الأعباء المادية ليست بشيء أمام التحدي الأكبر. كيف ننمي هذه البذرة التي زرعناها لتغدو شجرة مثمرة يستفيد منها الجميع ويحبون التواجد بقربها؟ كيف نغرس القيم ونجعل من هذا الطفل فرداً صالحاً؟ برأيي التربية من أصعب الأمور التي تواجه الأهل على الإطلاق. فبين مفاهيم التربية القديمة والحديثة، يجد الأم والأب أنفسهم في صراع بين وسائل أهلهم القديمة التي كانت ترتكز بشكل أساسي على سياسة الترهيب في تهذيب الأطفال وتوجيههم للسلوك الحسن وبين التربية الحديثة التي تنظر إلى الضرب كوسيلة قمعية عبثية تدمر نفسية الطفل وتقلل ثقته في نفسه.
كيف لنا أن نوازن بين الترهيب والترغيب؟ وكيف نصل إلى معادلة تكون نتيجتها طفل أخلاقه عالية وشخصيته قوية؟ في الحقيقة لا يوجد معادلة واحدة للتربية ولا يوجد معايير معينة تنطبق على الجميع، فكل طفل له طرقه وله مداخله. من أبرز طرق التربية الحديثة التي أثبتت جدواها في معظم الأحيان هي زاوية العقاب التي يقوم من خلالها الأهل بتحديد زاوية من زوايا المنزل شريطة أن لا تكون غرفة المعيشة أو غرفة نوم الطفل وإجبار الطفل على الوقوف في تلك الزاوية في حال ارتكابه لفعل مشاغب، على أن لا تزيد مدة العقوبة عن وقت محدد. تنتهي العقوبة بمواجهة الطفل وسؤاله عن سبب وقوفه في زاوية العقاب مع الحفاظ على اتصال الأعين يلحقه اعتراف الطفل بخطئه وحضن ناعم يتلقاه من الأهل. وعلى الرغم من نجاح هذا الأسلوب في العديد من الحالات، نجد أن هنالك أطفال لا ينساقون بسهولة لتلك الأنواع من العقاب، مما يدفع الأهل للضرب أو الصراخ من أجل توجيه أطفالهم إلا أنهم سرعان ما يكتشفون أن تلك الطرق أيضاً لم تعد تجدي نفعاً مع أطفال هذا الجيل المنفتح والذي يطلب منك إقناعه بسبب العقوبة أو سبب منعه عن تصرف معين، الأمر الذي يتطلب من الأهل التحلي بالصبر وطول النفس والتحلم الذي نفتقد له بسبب وجود العديد من الضغوطات التي تلاحقنا في مكان العمل أو من مسؤوليات الحياة المتزايدة.
كما ننسى كأهل أن نعزز الطفل باتباع أساليب التحفيز والترغيب لأننا ننغمس في فرض العقوبات لدرجة تجعلنا نغفل عن الأشياء الرائعة التي يقوم بها الأطفال. فيجب أن نذكر أنفسنا باستمرار على وجوبية شكرهم عندما يقومون بعمل صحيح ولو كان بسيطاً مثل السلام واحترام الكبير، المشاركة باعمال المنزل ولو كان فعلياً زيادة عبأ للأم، طلب الأشياء بأدب، وثنائهم على مشاركتهم أطفال أخرين باللعب. ولنكن واقعيين، لا يكفي توجيه الأطفال نحو التصرف الجيد وعقابهم لردع السلوك السيء سواءاً كان باستخدام زاوية العقاب أو باستخدام الضرب الذي يجب تجنبه في جميع الحالات. فأصعب مهمة فعليه تواجه الأهل تتمثل بحتمية لعبهم لدور القدوة الصالحة على الدوام. لنكن صادقين مع أنفسنا، هنالك العديد من السلوكيات والممارسات السيئة التي نمارسها كأهل وتستحق أن نعاقب من أجلها كالتدخين وإمضاء وقت مبالغ فيه على الموبايل واستخدام الألفاظ الغير لائقة أو الشتم عند الغصب وغيره من الأشياء الكثير. فكيف لهذا الطفل المنفتح على العالم أن يتقبل ما تمنعه عنه وتسمحه لنفسك أو أن يتقبل ما تأمره به وتتجنبه. هذا التناقض بين التوجيهات التي يعطيها الأهل لأطفالهم وغيابها في تصرفاتهم، تجعل الطفل في حالة من الضياع والاستغراب. فبدلاً من أن يتجنب الطفل فعل شيء لأنه الصواب، يتجنبه خوفاً من العقاب الآني، الأمر الذي لا يؤثر في تهذيب الطفل على المدى البعيد. فإن أردت مثلاً طفلاً هادئاً قليل العصبية والصراخ، وجب عليك أن تخاطبه بنغمة صوت هادئة وبهدوء تام وكلنا على علم بمدى صعوبة الأمر وخصوصاً عندما يخطئ الطفل وأنت بمزاج عكر.
ربما كانت التربية القديمة فعلاً مجدية عندما كنا صغاراً وكان للخف أو الفلفل أثر فاعل في نهر الأطفال، إلا أن مدة صلاحية هذه الأساليب انتهت. ملخص القول بأن تحدي التربية يلاحق الأهل إلى الأبد ويتطلب التحلي بالعديد من الصفات التي قد لا نمتلكها أصلاً كالصبر والتحلم وطول البال. لا يوجد هنالك قاعدة عامة يجب أن نلتزم بها لكن قد نتبع أسلوب له جدوى لمدة بسيطة قد تستمر لسنوات أو حتى لأشهر. الأمر الذي يستدعي منا كأهل أن نقوم بالبحث المستمر عن طرق أخرى أكثر جدوي وأكثر ملائمة لأطفالنا… وأود التنويه بأنني لست مختصة تربوية و لا أملك الحلول السحرية والوصفة المثالية لكل معضلة، إلا أنني أم أجاهد في هذه الحياه لأربي تربية حسنة على أمل أن تكون نتاجها طفل صالح منتج سعيد في حياته الدنيا والأخرة. رُزقت بطفل.. تهانينا فقد بدأت حياة تملؤها التحديات ويتخللها لحظات من المتعة والمغامرات!