بعيداً عن الماسي التي نعيشها يومياً وعن الأخبار التي لم تزل تصيبنا بالانذهال من تفشي داء الوحشية بين بني البشر.. لم أستطع كبح جماحي عن كتابة هذه المقالة سرعان ما عدت إلى أرض الوطن بعد رحلتي الأخيرة إليها.. لقد كنت في جنة من جنان الله على الأرض فرغم ازدحام السياح فيها ورغم أصواتها المرتفعة ورغم الاقتظاظ الشديد في أزقتها. إلا أنني شعرت بسلام داخلي وهدوء لم أشهده منذ فترة.. هي مدينة الخير.. مدينة اسطنبول.
فيها شعرت بالسعادة كلما عصف نسيمها العليل وكلما سمعت رنة تحريك الملعقة في كاسة الشاي.. كم ارتاحت عيني للون خضارها الباهي وسمائها الزرقاء الصافية وبريق البحر المنعكس مع إشراقة شمسها، مدينة اسطنبول من أجمل ما رأيت! هي حقاً الخير.. ففيها البحر والسماء الزرقاء التي يحلق فوقها طائر النورس الأخاذ. ذلك النورس الذي يذكرك باستمرار بأنك على مقربة من البحر ويسليك بصوته المنعش أثناء تناولك لوجبة الغذاء.
في تركيا، حتى طعم الخضار والفواكة مختلف وكأنها قطفت للتو من الأشجار خصيصاً لك.. وعصير الرمان الأحمر الحلو الذي يتم عصره أمامك وعيناك تلمعان وتتوقان لشربه.. في كل زاوية من زواياها قصه وحكاية وكأن المدينة تريد أن تخبرك بعراقة الأرض وفخامة التاريخ وعنفوان الحاضر.. تستحضر فخامتها وأنت تجول المدينة المليئة بالمعالم السياحية التي تستحق الزيارة.
لا يوجد ما هو أمتع من جلسة صفاء على ميناء أمينونو مع كاسة الشاي التركي التي ترافقك طول فترة إقامتك بإسطنبول فحتى لو لم تكن من محبي الشاي فلن تستطيع مقاومة كأس وأنت على العبارة أو عند البحر أو مع فطورك الصباحي. فطعم الشاي مختلف في اسطنبول وإدمان الأتراك الغامض على الشاي يجعلك في حيرة هائلة وفي ترقب لشربه حتى لو لم تكن يوما من شاربيه.
طعام تركيا
ومهما تحدثت عن طعامك يا تركيا فلن أستطيع أن أوفيكي حقك.. ما ألذ الكفتة والكباب والشاورما وما أحلى شوارعك التي تعج بالمطاعم الشعبية العريقة التي ما زالت تعمل منذ الستينات.. كم أعجبني وجود مالك المحل الذي يزينه والذي يقوم بكل تواضع وبنفسه على خدمة الطاولات والإشراف عليها. وما أحلاه تمسك أصحاب المطاعم بالزبائن وحرصهم على أن تتذوق من عندهم لقمة، فعلى الرغم من ازدحام المحل إلا أنهم يقومون بالترويج المستمر دون ملل أو تعب.. هم فهموا المعنى الحقيقي للقمة العيش والرزق. نعم هناك الكثير من المتسولين ولكن يفوقهم عدداً الباحثين عن الرزق والمتمسكين بالحياة.. لن أنسى تلك السيدة العجوز في ميدان تقسيم.. والتي تمسك كوباً تضع فيه حبوب القمح لإطعام الحمام.. وتقوم ببيعه للسائحين مقابل ثمن بخس حتى يتمكنوا من جذب الحمام والتقاط صور للذكرى لهم.. سوف تبقى ذكراها هي في مخيلتي وستبقى هي الدافع لأجتهد في عملي.
ماذا عن الفستق
وفوق خضرة اسطنبول يزيدها الفستق خضرة وغنى. في بلدي لا يستطيع أي كان أن يتناول الفستق. فهو فقط للطبقة الغنية، أما في حبيبتنا اسطنبول فترى الفستق يزين الأطباق بوفرة وليس حصراً على الحلويات. فتراه يزين اللحوم والأطباق المالحة المتنوعة ويستخدم بوفرة وغزارة في الحلويات من البقلاوة والكنافة. الفستق في بلدي لا يعرفه إلا الأغنياء ولكن في اسطنبول خير كتير متاح للجميع. لا تستطيع أن تترك اسطنبول دون أن تتذوق البقلاوة التي تذوب في الفم وتحرك كل براعم التذوق لديك.. مخدرات الروح ومنشطات الجسم.. تنتابك مشاعر السعادة كلما أخدت قضمة من البقلاوة الساحرة فهي ليست كأي بقلاوة.. وطبعا مع كاسة الشاي المر تبرز نكهة الفستق الفخم.. أنا لا أبالغ عندما أتغنى بطعام تركيا فهو طعام للروح قبل الجسد.
وأسعارها
أسعارها معقولة فكل شيء رخيص وفي متناول اليد.. الطعام والملبس والمسكن.. أليست هذه هي الاحتياجات الأساسية للعيش الكريم.. أليست هذه الاحتياجات الأساسية التي تُربط بها تقدم الدول وازدهارها.. في خاطري غصة وفي قلبي كسرة كلما أفكر ببلدي الذي أثقلته عجز الميزانية وكثرة الديون.. وحكومة تفكر في جيب المواطن كحل متكرر لهذا العجز.. تفرض الضرائب على كل شيء حتى أصبحت الطرفة المتداولة بين الشعب أن الحكومة ستفرض ضريبة على الهواء الذي نستنشقه.
كل شيء عليه جمرك فأصبح سعر الملبس أكثر غلاءاً وترى نفس المحال التجارية في مكان أخر أرخص ولكن في بلدي أغلى. الطعام بقيمة تشابه أوروبا بغلاءها مع تدني الرواتب في بلادي طبعاً… لما لا نستطيع أن نكون كالأتراك.. مع تدني سعر العملة. لم تلجئ الحكومة التركية لجيب المواطن بل على العكس حرصت أن تشعره وكأن شيء لم يكن. تركيا هي ليست المدينة الفاضلة لكنها استطاعت أن تكون حلم المواطن العربي الجديد والحضن الذي يلجأ اليه هرباً من غلاء المعيشة وطلبا للعيش الكريم.
أنا لا أستطيع سوى احترام هذا البلد والشعور بالراحة وأنا على ربوعه. لم أشعر حتى بأني سائحة فمصاريفي اليومية أقل من المصاريف للأشياء نفسها بجودة أقل في بلدي. لا أخفيكم شعوري بالاستياء من الغلاء المغالى فيه في بلدي.. كم أغبطكم أيها الأتراك على بلادكم.. نعم لا يوجد كمال في الحياة ولكن قدمتهم لي ما أسعدني.. لن أقول لكي وداعاً فحتماً سأعود.. وسلام الله على أوطاننا.